
العقل الالكتروني الذي يدير شريان الحياة في المملكة
تشهد المملكة العربية السعودية في ظل رؤيتها الطموحة نهضة عمرانية وصناعية غير مسبوقة، تتجلى بوضوح في مدن المستقبل، والمشاريع العملاقة، والمناطق الصناعية المتطورة التي تنمو بوتيرة متسارعة. هذا النمو الهائل، والتوسع في رقعة المدن، وتنوع مصادر الطاقة، يفرض تحديا كبيرا ومعقدا على البنية التحتية الكهربائية التقليدية التي صممت في الماضي لتعمل في اتجاه واحد بسيط من محطة التوليد المركزية إلى المستهلك النهائي.
لمواكبة هذا التطور وضمان استدامة الخدمة وموثوقيتها، تقود مملكتنا تحولا جذريا وشاملا نحو الشبكة الذكية (Smart Grid)، وهي شبكة رقمية متطورة ثنائية الاتجاه، "تتحدث" وتتفاعل لحظيا مع كل عنصر فيها، من محطات التوليد الضخمة، مرورا بخطوط النقل، وصولا إلى أصغر جهاز منزلي ذكي.
العمود الفقري لهذا التحول الوطني هو المشروع الضخم لنشر ملايين العدادات الذكية (Smart Meters) في جميع أنحاء المملكة، والتي تمثل "عيون" الشبكة التي ترصد بدقة متناهية بيانات الاستهلاك، والجهد، والتردد في الوقت الفعلي. ولكن البيانات الغزيرة وحدها لا تكفي لإدارة هذه المنظومة المعقدة؛ هنا يأتي دور الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence - AI) والتحليلات المتقدمة التي تعمل كـ "عقل" مفكر للشبكة.
خوارزميات الذكاء الاصطناعي المتطورة تقوم بتحليل تريليونات الإشارات والبيانات الواردة من أجهزة الاستشعار المنتشرة على خطوط النقل والتوزيع، لتتنبأ بالأحمال المستقبلية بدقة متناهية، وتحدد الأنماط الاستهلاكية المختلفة، وتكشف عن الأعطال المحتملة في المعدات قبل حدوثها بأسابيع، وهو ما يعرف بتقنية الصيانة التنبؤية (Predictive Maintenance). هذا يعني تقليل فترات الانقطاع المفاجئ بشكل كبير، ورفع كفاءة فرق الصيانة الميدانية، وإطالة العمر الافتراضي للأصول الوطنية الباهظة.
في سياقنا الوطني الخاص، يلعب الذكاء الاصطناعي دورا حاسما واستراتيجيا في إدارة مواسم الذروة، مثل موسم الحج الذي يستقبل ملايين الضيوف، أو أشهر الصيف الحارة حيث يرتفع الطلب على التكييف بشكل هائل ويشكل ضغطا على الشبكة. تمكننا الشبكة الذكية من تطبيق برامج استجابة للطلب (Demand Response) متطورة وفعالة، حيث يمكن للنظام، بالاتفاق المسبق مع كبار المستهلكين الصناعيين أو عبر أنظمة المنازل الذكية، خفض الأحمال غير الضرورية آليا وبشكل مؤقت خلال ساعات الذروة القصوى.
هذه "المحطة الافتراضية" توفر على الدولة مليارات الريالات التي كانت ستنفق لبناء محطات توليد وتشغيلها لساعات محدودة فقط في السنة لتلبية هذه الذروة. كما أن الشبكة الذكية هي الممكن الرئيسي والضروري لدمج مصادر الطاقة المتجددة المتقطعة ضمن مزيج الطاقة الوطني. فعندما تمر سحابة فوق محطة شمسية وتخفض إنتاجها، أو عندما تهدأ سرعة الرياح، يدرك الذكاء الاصطناعي هذا الانخفاض في التوليد فورا، ويقوم بتعويضه آليا وبسرعة فائقة عبر السحب من بطاريات التخزين أو زيادة إنتاج التوربينات الغازية عالية الكفاءة والمرونة، مما يضمن استقرار التردد وجودة الكهرباء الواصلة للمستهلك دون أي تذبذب.
إن هذا الاستثمار الضخم في رقمنة وأتمتة الشبكة هو استثمار مباشر في السيادة الرقمية والأمن الطاقوي للمملكة، ويضمن بنية تحتية مرنة وقوية قادرة على استيعاب طموحاتنا المستقبلية وتشغيل مدننا الذكية بكفاءة لا تضاهى.





